إجمالي مشاهدة المدونة

الأحد، 21 يونيو 2015

من رواية الحياة وانا (الجزء الثالث)

يتبع داخل الحي:



وتارة اخرى يكون موسم الدراجات الهوائية والتي لم يكن في استطاعة اياً كان ان يقتنيها او يمتلكها لارتفاع سعرها. فياله من يوم ذلك الذي اوفى ابي فيه بوعده لي بشراء دراجة حقيقية بعجلتين ومعشق سرعات وذات كرسي فاخر ذو مسند معدني طويل، وذلك بعد النجاح بتفوق في احدى سنوات المرحلة الاعدادية. بسبب تلك الدراجة كنت استعجل انقضاء الليل والاستيقاض للخروج واللعب بها فكنت استيقظ مرات عديده من النوم ظناً مني ان النهار قد حل لاقودها واتجول بها في شوارع الحي باحثا عن متسابق لأريه مهارتي وقدرة دراجتي الجديده والتي كنت اهتم بها ايما اهتمام. كنا نحاول جذب اهتمام فتيات الحي اللاتي كن يقفن في نوافذهن او يلعبن ببرائة امام بيوتهن بحركات بهلوانية تجعلهن يضحكن. كنا نعتقد، في ذلك الوقت، انهن اعجبن بنا وانهن بكل تأكيد سيقعن في حب الاكثر مهارة.  كنت اعتنى بدراجتي تلك بشكل كبير فكنت اقوم بتزيينها وتنظيفها وكأنها سيارة ستقوم بزف عروسان في شوارع المدينة. علقت على مقبضها اشرطة مطاطية ملونه تتدلى للاسفل تتحرك بحركة الدراجة ملفته الانظار بالوانها الزاهية, كما ركبت على ذلك المقود جهاز معدني صغير لماع يعمل بالبطارية اشتريته بعد توفير بعض الدراهم لاسابيع عديده. ذلك الجهاز كان مصنع ليصدر اصواتاٌ بنغمات مختلفه مشابه لصوت سيارة الاسعاف او انذار سيارة الشرطة او بوق السيارة حتى. اما العجلات فقمت بتزينها بغطاء مطاطي يمنع تناثر المياة المتراكمة على الطرق في فصل الشتاء فكان ذلك الغطاء له شرائح ملونه تتدلى ايضاً خلف العجلات. كنا نلتقي بعد انتهاء اليوم الدراسي واتمام الواجبات المدرسية لنقوم بتلك الاستعراضات وكلاً له طريقته في ذلك, فهذا يقود دراجته على العجلة الخلفية ورافعا الامامية للاعلى لتسير بذلك لمسافة تصل الى عشرات الامتار, وذلك يتباهي بقدرته على قيادة دراجته على ممر ضيق بالكاد يتسع لمرور عجلات الدراجة دون ان يسقط او يحيد عن ذلك الممر.
كان على كل منا ان ينتمى الى مجموعة من الاصدقاء داخل الحي لتكون هي حاضنتة وحصنة فيؤدي حقوقها وتساعده عند الحاجة ويخرج معها خارج محيط الحي اذ لم يكن بوسع احدنا ان ينتقل من حي الى اخر او الذهاب الي السوق مثلا بدون تلك المجموعة والا تعرض للضرب والنهب من قبل اولاد الاحياء الاخرى على الطريق. كانت وكأنها عصابات يحتكر كل منها منطقته ولاتسمح لاياً كان الدخول اليها بل ويصل الامر احيان ان تقوم احد مجموعات الحي بالتجمع والاغارة على الاحياء المجاورة مستخدمين في ذلك الحجارة والالواح الخشبية للتخويف وبالتالي هزيمتها وسلب ماتيسر من ادوات اللعب المستخدمة لدى تلك المجموعة من ثم تسجل هزيمة يؤرخ بها بين الاحياء.
كنا نذهب الى بين الفينة والفينة الى دار السينما التي كنت ذات مبنى ضخم كبيرلايبعد كثيرا عن الحي ويمكن رؤيته بالعين من حينا. الا انه كان يتعين علينا الذهاب في مجموعات خوفاً من عمليات السطو من ابناء الاحياء المجاورة خاصتاً ان كنا نحمل، بكل تأكيد، ثمن التذكرة والذي لايتعدي بضع قروش لاكنها كانت قيمة كبيرة بالنسبة لنا في ذلك الوقت.
كانت الافلام التي نفضلها عدة انواع. الاول، هي افلام الغرب الامريكي او مايعرف (بالكاوبوي) والتي كانت الاكثر اثارة وتأثيراً على المشاهد انذاك. فكان الجميع يتفاعل مع احداث الفلم بالتصفيق والتصفير تارة عند قدوم البطل في الوقت المناسب وفي اللحظات الاخيرة لمنع ظلم قارب على الحدوث اولانقاذ شخص اشرف افراد العصابة المجرمون على قتله فيقف الحضوراجلالا لهذا البطل المغوار القادم على فرس مدربه  لتطيع صاحبها بمجرد ان يصفر لها في مشهد مصحوب بموسيقى تصويريه وبنغمة تتناسب ووقع حوافر ذلك الحصان. وتارةً اخرى يتفاعل الجمهور مع مجريات واحداث الفلم برمى الشاشة بسدادات زجاجات المشروبات الغازية او حتى بما يتيسر من قطع نقدية نكايتاً في زعيم العصابة. اما البعض، ولشدة اندماجهم، يقفون من حين لاخرمانعين الرؤيا عن الجالسين على الكراسي الخلفية معربين عن اعتراضهم الشديد لحدث معين بالصراخ والعويل او مهددين زعيم العصابة واعوانه بالويل والثبور محاولين بذلك منع المجرمين من اقتراف جريمة في حق الابرياء. و لم يكن لأولئك الجالسين خلفهم الا محاولة تهدئتهم ليتمكنوا من مواصلة المشاهدة والاستمتاع بمتابعة الفلم المثير.
النوع الثاني من الافلام المحببه لدينا وكانت تتسبب في ازدحام شديد على شباك التذاكر عند عرضها، هي الافلام الهندية والتي كانت لطولها تعرض على فترة واحده (او جولة كما كانت تسمى) بعكس باقي انواع الافلام والتي كانت تعرض على جولتين متتاليتين الاولى من بعد العصر الى قبيل المغرب والثانية من بعد المغرب الى وقت متأخر.


السبت، 20 يونيو 2015

من رواية الحياة وانا (الجزء الثاني):

يتبع داخل الحي (الجزء الثاني):


وجوده فأصبح الانيس والرفيق لكل افراد الاسرة سواء كانت تلك الاسرة تعيش في الحضر او المدر. انتشر ذلك الدخيل ليعلو اسطح المنازل وتعج به المدن لتصبح وكأنها قواعد ارضية لمراقبة الفضاء الخارجي في انتظار القادمين من السماء. هذا الجهاز اللعين جعل اسطورة المرآة السحرية حقيقة فيمكن للمرء ان يرى ويراقب الاحداث عن بعد مئات الاميال بل يمكنه ايضا ان يرى الماضي ويستشرف المستقبل. تلك المرآة السحرية التي جلبت معها ثقافات غريبة علينا تسللت الى مجتمعاتنا كما تتسلل الافعى الى جحر فريستها  او كما يدس السم في العسل وذلك من خلال المسلسلات وبرامج الواقع والستار اكادمي. تداعت على مجتمعاتنا المسلمة المحافظة المسلسلات المدبلجة من مختلف اسقاع الارض, فهاذا مسلسل ارجنتيني وذاك برازيلي اوتركي بل واسُتورد لنا حتى الصيني والروسي. في الحقيقة لم اشاهد ولا واحد من تلك المسلسلات على الاطلاق الا ما اعرفة انها لاتحمل اي شئ جيد في طيات حلقاتها الطويلة الى حد الملل.
لازلت اذكر ذلك اليوم الذي اشترى لنا فيه ابي اول جهاز تلفزيون بل ولازلت اذكر حتى شكله. في ذلك الوقت كانت لاتزال هناك قناة وحيدة تبث برامجها البسيطة باللونين الابيض والاسود ولاتبدأ في عرض برامجها الا بعد الرابعة او الخامسة مسائا وتنهي بثها على مايقرب الواحدة ليلاً مبتدئه بالنشيد الوطني ثم ماتيسر من القرآن الكريم يعقبهما برامج الاطفال ثم تختم بمسلسل السهرة ثم بشكل عكسي..القرآن الكريم ثم النشيد الوطني ثم توضع تلك الدرائرة ذات الالوان الكثيرة والغريبه.
لكم غمرتنا سعادة عارمة بحلول ذلك الجهاز زائر دائم في بيتنا الدافئ  فكان ذلك الجهاز ذوشكل مربع اسود اللون يخلوا من اي اشكال الجمال ولاكننا لم نلاحظ ذلك بل بدى لنا وكأنها آلة الزمن اتت لتنقلنا من عالمنا الصغير الى عالم اكبر فسيح يشبع طموحنا واحلامنا الطفولية او لربما ألة اتت من كوكب اخر اكبر واكثر تطورا من عالمنا، كان صندوق الدنيا ذلك له مقبض من اعلى لحمله ونقله من مكان لاخر الا اننا كنا لا نجرأ حتى على لمسه وتشغيله ولا ادري فيما اذا كان ذلك خوفا منه او خوفا عليه. كان اولاد الحي يجتمعون على نافذة بيتنا في ايام الصيف لمشاهدة مايتسنى لهم من برامج الاطفال او لعلهم بالاحرى كانوا يتمتعون بمشاهدة ذلك الجهاز العجيب. لكم كنا نتلهف ان تختفي تلك الدائرة الكبيرة والتي كانت بالابيض والاسود قبل ان يتحول البث الى بث ملون بعد سنوات فكانت تلك الدائرة تحتوي على اللوان كثيرة كألوان قوس قزح توضع على الشاشة قبل البدأ في البرنامج اليومي والمصحوبة بطنين يصم الاذان والتي الى الان لم افهم المغزي منها وبوضعها على الشاشة قبل الافتتاح فكنا نستعجل اختفاء تلك الدائرة المزعجة لنبدأ في الاستمتاع بالرسوم المتحركة وبرامج الاطفال.
 كان لذلك الجهاز هوائيان على سطحة الاعلى بجانب المقبض يجب سحبهما الى الاعلى وتحريكهما في اتجاهات مختلفة لتوضيح الصورة قليلا. كما كان له مفتاحان دائريان يحرك الاكبر منهما لماشاهد تلك القناة الوحيده باختيار الرقم المناسب لتلك القناة من ثم يدار المفتاح  السفلى والاصغر لتوضيح الصورة وازالة النقاط الدقيقة السوداء المزعجة والتي قد تتكاثر بكثافة في وقت معين لتمنع الاستمتاع  بمشاهدة البرنامج  المفضل او لازالة خطوط التشويش الدقيقة والتي تروح يمنة ويسرة على الشاشة السميكة والمحدبة قليلا للخارج. ولكم دهشنا لاحقاً عندما قام احد الاقارب بشراء جهاز تلفاز من النوع (اكاي) مغلف بأطار او صندوق خشبي له باب يمكن سحبه ليغلق شاشة ذلك التلفاز.
لم تمض فترة طويلة الا وقام ابي بتركيب هوائي استقبال كبير الحجم من نوع (ويزي) على سطح المنزل لتوضيح صورة تلك القناة المحلية الوحيدة الا انه كان علينا تحريك ذلك الهوائي يدويا بين الفينة والاخرى الامر الذي كان يساعد على استقبال بعض قنوات الدول المجاورة في ايام الصيف الجميلة وتحت ضروف جوية مناسبة. منها القناة التونسية والتي من اشهر برامجها في تلك الفترة برنامج (ام تراكي ناس ملاح) والذي لم نكن نفهم منه اي كلمة او عن ما يدور محتواه لاكنه على اي حال كان ينقلنا الى خارج عالمنا الصغير والمغلق.اضافة الى تلك القناة التونسية الوحيده، كان بامكان ذلك الهوائي اللعين ان يستقبل بعض القنوات اليونانية والايطالية والتي جعلتنا نتطلع على العالم ونشاهد مايحدث فيه ولو بشكل محدود. برغم ذلك لم يكن للتلفاز او تلك القنوات تأثير يذكر ولم يكن يسيطر على عقول الناس كما هو الحال الان.
كنا كأولاد نجتمع لنلعب في الحي و حولة العاب اغلبها ذو طابع اجتماعي حسب الموسم فتارة يكون موسم العربات الخشبية ذات الاربع عجلات من بقايا عجلات الدرجات المعدنية وبدون اطارات مطاطية. تلك العربات كان البعض يتفنن ويبدع في صنعها واتقانها الا انه كان على احدنا ان يجد من يدفعه اثناء ركوبها باحثين عن الشوارع المنحدره لتجعلنا نسير بسرعة عالية بدون مساعدة او دفع. على الرغم من بساطة وسذاجة  تلك العربات الخشبية الا انها كانت بالنسبة لنا تمثل قمة المتعة وامتلاكها كأمتلاك شئ ثمين وركوبها كاركوب سيارة فاخرة او حصان اصيل نتباها ونحن نمتطيها متجولين في شوارع الحي.
يتبع......

الجمعة، 19 يونيو 2015

من رواية الحياة وانا (الجزء الاول)


داخل الحي:

كعادتي كنت خارجاً من البيت عصر احد ايام الصيف الحاره بعد ان انخفضت حرارة الجو قليلا وهبت نسمة هواء شمالية جعلت منه يوماً مثاليا للعب مع اقران الحي الذي بدأ صوتهم يصل الى مسمعي داخل المنزل فكان اللعب هو شغلنا الشاغل في عطلة الصيف الطويلة والتي تمتد الى مايقرب عن الثلاث اشهر متواصلة في تلك المرحلة من الدراسة الابتدائية. ما ان وصلت الى باب منزلنا الخارجي حتى سمعت ابي يناديني, والذي كان غالبا مايغفو القيلولة في ذلك الوقت وفي تلك الحجرة الخارجية لبرودتها في الصيف دون باقي الحجر, وقد اختلط صوته بصوت المذياع الذي عدل على محطة (البي بي سي) الاخبارية وكانت ساعة (بج بن) قد بدأت في قرع اجراسها معلنه عن دخول الساعة الرابعة بعد الظهر وعن بدأ نشرة الرابعة والتي بدأها مذيع البي بي سي (جميل عازر) محيياً مستمعية بصوته الاجش. بالكاد سمعت صوت ابي قائلا "اريدك اليوم معي لاتذهب بعيداً". وقبل ان يكمل جملته ويواصل حديثة تجمدت في مكاني ولم احرك ساكنا للحظات بدت لي كأنها الدهر وقد شخصت عيناي للاعلى وجمدت رجلاي في مكانهما وبدأت في تصور ماسيكون عليه الحال بعد بضع ساعات لكوني اعتدت على مثل هذا الطلب: سأحرم من اللعب كامل المساء ولربما الى منتصف الليل وسأبقى بجانب والدي واصحابة لمساعدتهم في اصلاح سيارتنا القديمة, ستتسخ يداي بالزيوت والشحوم التي تلوث الادوات الخاصة بعملية الاصلاح, قد اعاقب اذا ماطُلب مني احضار مفتاح ذو رقم معين واخطات في جلبه او لم اجد اداة ما وقلت انها غير موجودة في حين انها كانت امام عيني وفي متناول يدي, وسيسخر اصدقاء ابي نتيجة لذلك وسيسألون ابي قائلين "ماخطب ابنك لا يرى الاشياء امامه, اذهب به الى الطبيب", سيمزح اصدقاء ابي معي مزاحهم الثقيل والذي لا افهمة ولا احبة والذي يجعل الدموع تكاد تنهمر من عيني امامهم فأمنعها بصعوبة مدعيا ان شيئ من الاتربة او الحشرات قد دخل بها. قلت في نفسي "ياله من يوم ويالني من سئ الطالع, لماذا لا اكون مثل اقراني في الحي لا يطلب ابائهم منهم المساعدة؟ لماذا انا دائما سئ الحظ". ثواني معدودة ووصل صوت ابي الى مسمعي مكملاً كلامه كما توقعت تماماً قائلاً "اصدقائي اليوم قادمون لمساعدتي في اصلاح السيارة وستكون بجانبي لمد يد العون ولجلب الشاي والطعام من المنزل". الا انه لم يكن لي من بد من الرد عليه عليه قائلا "نعم حاضر, سأكون في الجوار".
كنت طفلا صغيرا حالما نشأ في اسرة متوسطة الحال لديه طموح واحلام اكبر من عمره وتفوق قدراته بكثير. كنت ولا ازال متيقن ان الحياة حلم يعيشه كلاً بشكل مختلف وعلى طريقته فلا طعم للحياة بدون احلام ولا مذاق لها بدون طموح وان "الحلم ليس بحياة ولاكن الحياة حلم". كان ابي رجل طويل القامة ممتلئ الجسم ذو فكاهة ولسان ناقد لاذع يخشى سطوته الاقارب لشدة نقده لهم ومحاولاته المتواصلة لنصحهم واصلاحهم خاصتا اولائك الذين لايجيدون الا الكلام والنوم ليس لديهم الا التسكع بين البيوت, فكان ينهرهم ويحثهم على النشاط والعمل والبحث عن مستقبلهم. الا اني كنت في احيانا كثيرة اخجل من نقده وتوبيخه لهم بل كنت اتمنى ان لا اكون موجودا في كثير من المواقف واقول له في نفسي  “ارجوك ابي كف عن هذا اني اشعر بالخجل منك“  ولعل ذلك يرجع الى طبعي المسالم اذ كنت ولا ازال لا احب ان أوذي او اُهين احد ولعلي اشبه في ذلك امي العزيزه والتي كانت في طبعها وشحصيتها عكس ابي تماما. كانت امي قليلة الكلام هادئة الطبع طيبة المعشر مسالمة وديعة مثل القطة, لاتعادي ولا تعتدي على احد وقل ما تتجاذب اطراف الحديث مع النسوه في المناسبات التي تحضرها الا ماندر, الا انها كانت ربة بيت من الطراز الرفيع تولي ببيتها وابنائها اهتماما كبيرا تجيد الطبخ بمهارة منقطعة النظير تهتم بالنظافة ايما اهتمام الامر الذي جعلني لا استصيغ اي طعام طُبخ بغير يديها فكنت نادرا مااستصيغ الاكل خارج البيت الامر الذي يظنه البعض نوع من التعالي والتأفف او حتى تكبر. فكنت ارى اي طعام اُعد خارج البيت سيشوبه حتما شئ من عدم النظافة وانعدام المذاق. ولربما كلاً يقول ماقوله ويحس بما احس به تجاه والدتي, لاكني اجزم ان امي كانت شئ اخر ولطعامها مذاق خاص. الا اني والحق يقال لم اشعر اني وفيتها حقها في ذلك الوقت فلم تكن في نظر ذلك الطفل الا مصدر للطعام الجيد والاكل اللذيذ وفي احيانا كثيرة ملجأ من العقوبات اوحضن دافئ لافراغ الدموع والشكوى.
الا اني بعد ان غادرتنا الى رب السموات والارض عرفت قدرها وافتقدت حنانها وعلمت مدى حبها لنا وتضحتها في سبيلنا. بعد وفاة امي انفرط عقد الاسرة ولم يعد احد يهتم بالاخر كما السابق واصبحت الاسرة كالبيت الذي لاباب له ليحمية من دخول الريح البارد.
 برغم ان ابي كان رجل امي لا يجيد القرائة والا الكتابة, الا انه كان حاد الذكاء يجيد العمليات الحسابية دون مساعدة او استخدام اي اداة الامر الذي مكنه لاحقا من مزاولة التجارة بمهارة بعد اقناعة بترك عملة المرهق الذي انهك صحتة, كما كان يجيد مختلف الاعمال الحرفية واليدوية فتارة يقوم بأصلاح الاعطال التي تطرأ على اي آلة في البيت وتارة يصلح اعطال سياراتنا البيجو موديل 404 (الحمامة) بيضاء اللون والمصنعة في سبعينات القرن الماضي والتي كان اصلاحها هوايته المفضلة فلا اعلم ايهما كان المحبب اليه اكثر هل العمل اليدوي والميكانيكا اللتان يتقنهما ام حبه لتلك المركبة وعشقه لها. عملية الاصلاح والصيانة كانت هواية وعمل شبه يومي لابي وزملائه فكانوا يجتمعون على عملية الاصلاح تلك وكأنهم يجتمعون على وليمة يلبون دعوتها فرحين. وبالفعل كانت تأتيهم موائد الطعام بين الفينة والفينة عليها مالذ وطاب من الاطعمة المطهاه بيدي امي تتبعها كؤس الشاي والمرطبات بمخلتف اللوانها وانواعها. بل ويصل الامر الى ان عدد منهم يشترط للحضور والمساعدة ان يُجهز ذلك النوع من الخبز او تلك النوعية من الكعك او حتى الفطائر.
اما انا,وكأي طفل في سني, كان الامر بالنسبة لي عباره عن كابوس مزعج لانه كان لزاما على ان اقوم بدور المساعد لوالدي واصدقائة, فاقوم  بخدمتهم وجلب الموائد من داخل المنزل وارجاعها للداخل اضافة الى الزامي البقاء بجوارهم  ومساعدتهم  بمدهم بالادوات والمفاتيح الازمة للصيانة والتي بطبيعة الحال كانت متسخة بالشحوم والزيوت نتيجة استخدامها المستمر والتي تبدأ بالتبعثر على الارض بمرور الوقت وبدأ العمل بها فكان على البحث عن اي مفتاح يطلبونه وايجادة بسرعة والا علا الصراخ وبدأ التوبيخ وكنت كثيرا ما اسمع تلك الجملة من اصدقاء ابي قائلين له "مابال ابنك يامحمد دائم التفكير وكثير السرحان والاحلام". كانت عملية الاصلاح تتم في اي وقت من اوقات السنة وتحت اي احوال جوية وتستمر من عدة ساعات الى عدة ايام خاصتاً اذا كان الامر يتعلق بعملية اصلاح او صيانة كبيرة وشاملة لمحرك السيارة.
كم كنت اكرة تلك الاداة المسماة "الاسبكش" وهي عبارة عن مصباح يستخدم للانارة اثتاء عملية الاصلاح ويمكن ادخالة تحت السيارة او الاماكن الضيقة وله وصلة كهربائية طويلة للاتصال بالكهرباء عن بعد ومن داخل المنزل في حالتنا, يغلفها غلاف معدني مشبك من جهة ومن جهة اخري مغلف بالكامل لحماية المصباح الكهربائي, يتصل به خطاف من اعلى لتعليقة في اي مكان كما مقبض بلاستيكي به زر الاشعال". كان على ان اقوم بحمل ذلك الاسبكشن والانتقال من مكان الى مكان ومن زاوية الى زاوية متبعا في ذلك توجيهات من يقوم بالاصلاح اسفل السيارة او داخل المحرك. : "انر هنا", "ادخل الاسبكشن قليلا للداخل فلم اعد ارى", " اقلب وجة الاسبكشن للداخل لينير فقد وضعته على الجهة الخطا", وغيرها من التوجيهات التي تحتاج الى انصات وتركيز والذان كنت افقدهما وينقصان لدي في احياناً كثيرة مما كان يستلزم بعض النهر والتوبيخ من ابي واصدقائه.

كنت احاول اتهرب من تلك المساعدة بادعاء المرض احيانا و الواجبات المدرسية احيانا اخري الا ان تلك الحيل كانت قل ماتنجح خاصتا في العطلة الصيفية فيفوتني اللعب في الحي مع الاولاد. كنت احلم كثيرا ويطيش خيالي بعيدا الامر الذي يفقدني التركيز ولا اجد الاشياء التي يطلبونها مني بالرغم من وجودها امام عيني مباشرة فكان هذا الامر يزعج ابي الذي كان يريدني ان اكون حاضر الذهن سريع البديهة لذا كان يطلب ابي مني ان اكون حاضراً دائماً  لتقديم المساعدة الامر الذي لا يستوعبة طفل في تلك السن ففي حينها كنت اعتبر تلك المساعدةً  كابوس مزعج وعبأ ثقيل. الا انني وبعد مرور عشرات السنين فهمت المغزى من كل ذلك واشعر اليوم اني قد تعلمت واستفدت الكثير من كل ذلك والتي من اهمها الاعتماد على النفس وعدم سؤال الاخرين الا ماندر.
الان وبعد كل تلك السنوات عرفت ان ذلك كان مفيدا حقاً فها اناذا امتلك صندوق مخصص كذاك الذي كان يملكه ابي يحتوي على كل مايلزم من ادوات استخدمُها في في عمليات الاصلاح والصيانة المختلفة. فاقوم مثلا بتجميع الاثاث وتركيبه او اصلاح اي الة كهربائية او منزلية بل واصبح الامر لدي من الامور الممتعة ومن هواياتي المفضلة.
كان زمانا جميلا وكانت الحياة لها مذاقها على الرغم من بساطتها وصعوبتها احيانا. 
كان الناس لاتزال تقيم وزناً للقيم والعلاقات الاجتماعية وصلة الرحم التي لربما فقدت بشكل كبير او على الاقل بهت لونها في عصرنا هذا, عصر الانترنت والاتصالات, فلم يكن التلفاز قد ولج الى كل بيت ولاتملكه كل اسرة والتي كانت بدايته, اي التلفاز, بداية خجولة وتاثيره نوعا ما ايجابي اذ كانت الاسرة تجتمع عليه لمشاهدة بعض البرامج البسيطة والتي في الغالب لم تكن موجهه.
الا ان الامر سرعان مااختلف بعد ذلك عندما دخل جهاز الفيديو البيت مما ادى الى قلب الموازين وساهم في انتشار ثقافة الافلام الامريكية والمصرية والتي بدأت في تاثيرها السلبي على المجتمع مع مرور الوقت ووصل اهميتها للدرجة التي جعلت الناس يتبادلون تلك الافلام بينهم. بعد فترة وجيزة دخل جسم دخيل اخر على مجتمعنا وكان الاخطر على الاطلاق, انه جهاز استقبار الاقمار الاصطناعية او مايسمىبالساتالايتوالذي رخص سعره تدريجياً ليدخل كل بيت ويكون جليس كل افراد الاسرة كبيرها وصغيرها نساءها ورجالها ولم يعد احد يستطيع الفكاك من سلطانه واسره فلايكاد يُتصور ان يخلو بيت من وجوده فأصبح....يتبع

البوليس في بيتنا

البوليس في بيتنا

اليوم هو الثاني من ايام شهر رمضان المبارك. دخلت بعد العصر لانام قليلا لشعوري بصداع شديد وتراخي في الجسم بعد يوم طويل ممل. مضت فترة ليست بالقيصيرة بدأ النوم بعدها يسري في اعضاء جسمي وما ان وصل الى عيناي وبدئتا في التراخي حتى دخلت على ابنتي وفاء مذعورة دافعتا الباب بقوة جعلتني اقفز من السرير مفزوعا من  صوتها الذي طن في اُذناي وكانه آت من وادٍ سحيق اوعالم اخر مضلم. كانت تصيح بأعلى صوتها مرددتاً "بابا..بابا..البوليس في الخارج يردونك..بسرعة بسرعة".
قفزت فزعاً من سرير غرفة النوم والتي اغلقتُ جميع نوافذها وجعلتها حالكة الظلام  الامر الذي جعلني لا ارى امامي وكاد يرتطم وجهي بالباب الذي فتحته وفاء بشكل غير كامل. خرجت مهرولاً بملابس النوم لارى ما الخطب حيث وجدت ابنائي وامهم يتجمعون حول الباب وينظرون من شق صغير صنع نتيجة فتح الباب بشكل غير كامل. نظرت الى زوجتي فاتحتا عيناها وبدا على وجهها الذعر وقالت متسائله "مالذي حدث؟ ماذا هناك؟"  قلت لها بلسان متثاقل بالكاد يُجمع الحروف ليخرجها كلمات "لا ادري، سنرى ماذا هناك". اكملت فتح الباب لارى امامي شرطيان  يرتديان زيهما الرسمي بكل اناقة و بكامل عتادهما (لاسلكي على الصدر، هراوة صغيرة على الخصر الايسر، مسدس على الخصر الايمن). كان احدهما في العقد الثالث من عمرة  طويل القامة رياضي الجسم بدا متأهباً وقد رفع صدرة ليبدوا اكثر قوة وفتوة وقد وضع يده اليمنى على المسدس المعلق على خسره الايمن ومسك بيده اليسرى باب المنزل وكأنه كان يتوقع غلقة في وجهه. اما الاخر فكان اكبر سناً ويبدوا انه الاعلى رتبه وهو الذي بدأ زمام المبادرة بالكلام قائلا "هل انت السيد فلان؟" قلت له وقد وضعت احدى يدي على جبهتي وحركتها لاسفل لامسح بها على عيني اليمنى وكأني اردت زيادة نسبة التركيز في ذهني لمحاولة فهم مايدور حولي "نعم انا هو! تفضل ما الخطب" قلت انا له.
رد قائلاً وقد نظر الى قصاصة ورق بيده  قد مزقت بشكل غيرمنتظم من كراس ماعلى مكتبة بعد ان كتب عليها البيانات اللازمة والتى على مايبدوا قد امليت عليه بالهاتف. "هل تملك سيارة من النوع الفلاني؟" سأل الظابط. للوهلة الاولى ظننت انهم جائوا للقبض علي لشكهم انني احد اعظاء جماعة الدولة الاسلامية فقلت بيني وبين نفسي لعل احد يريد ان ينتقم مني فأبلغ السلطات السويسرية بأني انتمى الى ذلك التنظيم المرعب!, او لعلى ارتكبت جرما اليوم ولم انتبه لذلك وبما انهم بدئوا بالسؤال عن امتلاكي للسيارة فلابد ان اكون قد دهست احدهم اليوم في غفلة!
قلت له بعد برهة من التفكير"نعم املك تلك السيارة، لاكن ماذا حدث؟" رد قائلا "ارني  سأريك وسأريك ماذا فعلت" وكان كلامة ونظراته شزراً بحيث انعقد لساني واحجم من طرح مزيد من الاسئلة. سرقت النظرالى رفيقة الاخر فكانت نظراته هو الاخر يتطاير منها الشرر فلم انطق ببنت شفة. استاذنتهما في السماح باستبدال ملابس النوم بملابس اخرى فوافقا على مضض واذنا لي بذلك وعيناهما يملائهما الشك والريبة.
خرجنا الى حيث سيارتي ووقفت ان والاصغر منهما بجانبي وقد اخذ وضع الاستعداد والتأهب لمنعي من ارتكاب اي حماقة او هجوم مباغت او لمنعي من اغتنام اول فرصة لسحب المسدس من احدهما والتصويب عليهما او على الاقل لمنعي من اطلاق لرجلاي العنان والهرب منهما. اخذ الاخر يطوف حول السيارة باحثاً عن شئ ما على هيكلها الخارجي. قلت في نفسي متسائلا "برب السماء مالذي يمكن ان يكون قد علق بسيارتي ويبحث عنه هذا الرجل؟ هل من الممكن ان يكون احد اعضاء الشخص الذي دهسته لاتزال عالقة بسيارتي؟". لا اخفي قولا انني بدأت اتخيل واتصور ذلك الشرطي وقد سحب رجل امراه او ذراع رجل من اسفل السيارة وبدأ يلوح بها في وجهي قائلا " ارأيت ماذا فعلت اليوم؟ لقد مزقت اليوم شخصا اربا بسيارتك"، او قد مرر اصبعة السبابة على سطح السيارة السفلي ثم رفعه للاعلى واصبعة يقطر دما وهو يقول لرفيقة "ارأيت الدم لايزال ساخن على السيارة". الا انه ايقضني من خيالي الكابوسي المرعب ذلك متسائلاً: "اين كنت اليوم بسيارتك؟ هل ذهبت بها الى داخل المدينة اليوم؟" قلت مجيبا "نعم لقد ذهبت اليوم الى صلاة الجمعة بالسيارة, لاكن ماالذي حدث؟" سألت وقد جف حلقى وبالكاد استطعت ان اكمل سؤالي. ابتعد قليلا وبدا يتحسس بيدة بعض الختوش اسفل خلفية السيارة وردد قائلا " هل شعرت بشئ ما هناك؟" قلت "لا لم اشعر بشئ" 
قام الرجل بالاتصال بالشرطة المركزية التي طلبت منه الحضور الي واخطرهم بما وجد وحدث وسألهم عن الخطب.
فقال لي انهم اخبروه ان احدهم قد جاء الى الشرطة مشتكيا انك ختشت سيارته وانت تحاول ان تصف سيارتك في المكان المخصص وكان ذلك المكان ضيق ولا يسع للسيارة فلمست خلفية سيارتك مقدمة سيارتة الفارهة ذات الطلاء الخاص والغالي الثمن"
ما ان سمعت ذلك حتى تنفست الصعداء واخرجت زفرة وقلت في نفسي:
"لابارك الله فيكم ولا حياكم ولابياكم, اكل هذا من اجل ان سيارتي لمست سيارة ذلك اللعين ولعلها لم تحدث بها الا ختش مثل ثقب الابرة."
ويبدا لي ان الرجل لم يكم يعي مالخطب هو ايضا فقد تغيرت تعاليم وحهه وارتخت اعصابة بدوره. واكاد اجزم ان الرجل كان ينفذ الاوامر الصادرة له بدون وعي, لان طريقتهم كانت تنم عن سوء ظن كعادة المخبرين والمحققين.
اخذ مني رقم الهاتف وقال لابد من ان نجري اختبار نسبة الكحول فقلت "اني لا اشرب الكحول اضافة اننا في شهررمضان واني صائم!" قال "هذا اجراء روتيتي لابد من عمله". بعد ان نفخت في ذلك الجهاز الصغير وكانت النتيجة صفر في المئة قام بتسجيل القيمة وقال يستصل بك احدهم لمواصلة الموضوع وتركني مصافحا ومتمنياً مسائا جميلاً.

العبرة المستخلصة من هذه القصة القصيرة ان العدل اساس الملك وان ازدهار الدول وتطور الامم مرهون بحفظ الحقوق واداء الواجبات ورفع الظلم عن الناس. فصاحب السيارة وان كان امرة وحقة بسيط ولا يكاد يذكر البته, الا ان الشرطة كانت في خدمته وعملت على جلب حقة وان قل.
اما بالنسبة لي فلايشكل الامر شئ ذو قيمة فشركة التأمين ستقوم بدفع القيمة مهما كانت صغيرة او كبيرة الا ان الرعب الذي عشته للحظات اخذ وقتا طويلا الى ان زال.