إجمالي مشاهدة المدونة

الجمعة، 19 يونيو 2015

من رواية الحياة وانا (الجزء الاول)


داخل الحي:

كعادتي كنت خارجاً من البيت عصر احد ايام الصيف الحاره بعد ان انخفضت حرارة الجو قليلا وهبت نسمة هواء شمالية جعلت منه يوماً مثاليا للعب مع اقران الحي الذي بدأ صوتهم يصل الى مسمعي داخل المنزل فكان اللعب هو شغلنا الشاغل في عطلة الصيف الطويلة والتي تمتد الى مايقرب عن الثلاث اشهر متواصلة في تلك المرحلة من الدراسة الابتدائية. ما ان وصلت الى باب منزلنا الخارجي حتى سمعت ابي يناديني, والذي كان غالبا مايغفو القيلولة في ذلك الوقت وفي تلك الحجرة الخارجية لبرودتها في الصيف دون باقي الحجر, وقد اختلط صوته بصوت المذياع الذي عدل على محطة (البي بي سي) الاخبارية وكانت ساعة (بج بن) قد بدأت في قرع اجراسها معلنه عن دخول الساعة الرابعة بعد الظهر وعن بدأ نشرة الرابعة والتي بدأها مذيع البي بي سي (جميل عازر) محيياً مستمعية بصوته الاجش. بالكاد سمعت صوت ابي قائلا "اريدك اليوم معي لاتذهب بعيداً". وقبل ان يكمل جملته ويواصل حديثة تجمدت في مكاني ولم احرك ساكنا للحظات بدت لي كأنها الدهر وقد شخصت عيناي للاعلى وجمدت رجلاي في مكانهما وبدأت في تصور ماسيكون عليه الحال بعد بضع ساعات لكوني اعتدت على مثل هذا الطلب: سأحرم من اللعب كامل المساء ولربما الى منتصف الليل وسأبقى بجانب والدي واصحابة لمساعدتهم في اصلاح سيارتنا القديمة, ستتسخ يداي بالزيوت والشحوم التي تلوث الادوات الخاصة بعملية الاصلاح, قد اعاقب اذا ماطُلب مني احضار مفتاح ذو رقم معين واخطات في جلبه او لم اجد اداة ما وقلت انها غير موجودة في حين انها كانت امام عيني وفي متناول يدي, وسيسخر اصدقاء ابي نتيجة لذلك وسيسألون ابي قائلين "ماخطب ابنك لا يرى الاشياء امامه, اذهب به الى الطبيب", سيمزح اصدقاء ابي معي مزاحهم الثقيل والذي لا افهمة ولا احبة والذي يجعل الدموع تكاد تنهمر من عيني امامهم فأمنعها بصعوبة مدعيا ان شيئ من الاتربة او الحشرات قد دخل بها. قلت في نفسي "ياله من يوم ويالني من سئ الطالع, لماذا لا اكون مثل اقراني في الحي لا يطلب ابائهم منهم المساعدة؟ لماذا انا دائما سئ الحظ". ثواني معدودة ووصل صوت ابي الى مسمعي مكملاً كلامه كما توقعت تماماً قائلاً "اصدقائي اليوم قادمون لمساعدتي في اصلاح السيارة وستكون بجانبي لمد يد العون ولجلب الشاي والطعام من المنزل". الا انه لم يكن لي من بد من الرد عليه عليه قائلا "نعم حاضر, سأكون في الجوار".
كنت طفلا صغيرا حالما نشأ في اسرة متوسطة الحال لديه طموح واحلام اكبر من عمره وتفوق قدراته بكثير. كنت ولا ازال متيقن ان الحياة حلم يعيشه كلاً بشكل مختلف وعلى طريقته فلا طعم للحياة بدون احلام ولا مذاق لها بدون طموح وان "الحلم ليس بحياة ولاكن الحياة حلم". كان ابي رجل طويل القامة ممتلئ الجسم ذو فكاهة ولسان ناقد لاذع يخشى سطوته الاقارب لشدة نقده لهم ومحاولاته المتواصلة لنصحهم واصلاحهم خاصتا اولائك الذين لايجيدون الا الكلام والنوم ليس لديهم الا التسكع بين البيوت, فكان ينهرهم ويحثهم على النشاط والعمل والبحث عن مستقبلهم. الا اني كنت في احيانا كثيرة اخجل من نقده وتوبيخه لهم بل كنت اتمنى ان لا اكون موجودا في كثير من المواقف واقول له في نفسي  “ارجوك ابي كف عن هذا اني اشعر بالخجل منك“  ولعل ذلك يرجع الى طبعي المسالم اذ كنت ولا ازال لا احب ان أوذي او اُهين احد ولعلي اشبه في ذلك امي العزيزه والتي كانت في طبعها وشحصيتها عكس ابي تماما. كانت امي قليلة الكلام هادئة الطبع طيبة المعشر مسالمة وديعة مثل القطة, لاتعادي ولا تعتدي على احد وقل ما تتجاذب اطراف الحديث مع النسوه في المناسبات التي تحضرها الا ماندر, الا انها كانت ربة بيت من الطراز الرفيع تولي ببيتها وابنائها اهتماما كبيرا تجيد الطبخ بمهارة منقطعة النظير تهتم بالنظافة ايما اهتمام الامر الذي جعلني لا استصيغ اي طعام طُبخ بغير يديها فكنت نادرا مااستصيغ الاكل خارج البيت الامر الذي يظنه البعض نوع من التعالي والتأفف او حتى تكبر. فكنت ارى اي طعام اُعد خارج البيت سيشوبه حتما شئ من عدم النظافة وانعدام المذاق. ولربما كلاً يقول ماقوله ويحس بما احس به تجاه والدتي, لاكني اجزم ان امي كانت شئ اخر ولطعامها مذاق خاص. الا اني والحق يقال لم اشعر اني وفيتها حقها في ذلك الوقت فلم تكن في نظر ذلك الطفل الا مصدر للطعام الجيد والاكل اللذيذ وفي احيانا كثيرة ملجأ من العقوبات اوحضن دافئ لافراغ الدموع والشكوى.
الا اني بعد ان غادرتنا الى رب السموات والارض عرفت قدرها وافتقدت حنانها وعلمت مدى حبها لنا وتضحتها في سبيلنا. بعد وفاة امي انفرط عقد الاسرة ولم يعد احد يهتم بالاخر كما السابق واصبحت الاسرة كالبيت الذي لاباب له ليحمية من دخول الريح البارد.
 برغم ان ابي كان رجل امي لا يجيد القرائة والا الكتابة, الا انه كان حاد الذكاء يجيد العمليات الحسابية دون مساعدة او استخدام اي اداة الامر الذي مكنه لاحقا من مزاولة التجارة بمهارة بعد اقناعة بترك عملة المرهق الذي انهك صحتة, كما كان يجيد مختلف الاعمال الحرفية واليدوية فتارة يقوم بأصلاح الاعطال التي تطرأ على اي آلة في البيت وتارة يصلح اعطال سياراتنا البيجو موديل 404 (الحمامة) بيضاء اللون والمصنعة في سبعينات القرن الماضي والتي كان اصلاحها هوايته المفضلة فلا اعلم ايهما كان المحبب اليه اكثر هل العمل اليدوي والميكانيكا اللتان يتقنهما ام حبه لتلك المركبة وعشقه لها. عملية الاصلاح والصيانة كانت هواية وعمل شبه يومي لابي وزملائه فكانوا يجتمعون على عملية الاصلاح تلك وكأنهم يجتمعون على وليمة يلبون دعوتها فرحين. وبالفعل كانت تأتيهم موائد الطعام بين الفينة والفينة عليها مالذ وطاب من الاطعمة المطهاه بيدي امي تتبعها كؤس الشاي والمرطبات بمخلتف اللوانها وانواعها. بل ويصل الامر الى ان عدد منهم يشترط للحضور والمساعدة ان يُجهز ذلك النوع من الخبز او تلك النوعية من الكعك او حتى الفطائر.
اما انا,وكأي طفل في سني, كان الامر بالنسبة لي عباره عن كابوس مزعج لانه كان لزاما على ان اقوم بدور المساعد لوالدي واصدقائة, فاقوم  بخدمتهم وجلب الموائد من داخل المنزل وارجاعها للداخل اضافة الى الزامي البقاء بجوارهم  ومساعدتهم  بمدهم بالادوات والمفاتيح الازمة للصيانة والتي بطبيعة الحال كانت متسخة بالشحوم والزيوت نتيجة استخدامها المستمر والتي تبدأ بالتبعثر على الارض بمرور الوقت وبدأ العمل بها فكان على البحث عن اي مفتاح يطلبونه وايجادة بسرعة والا علا الصراخ وبدأ التوبيخ وكنت كثيرا ما اسمع تلك الجملة من اصدقاء ابي قائلين له "مابال ابنك يامحمد دائم التفكير وكثير السرحان والاحلام". كانت عملية الاصلاح تتم في اي وقت من اوقات السنة وتحت اي احوال جوية وتستمر من عدة ساعات الى عدة ايام خاصتاً اذا كان الامر يتعلق بعملية اصلاح او صيانة كبيرة وشاملة لمحرك السيارة.
كم كنت اكرة تلك الاداة المسماة "الاسبكش" وهي عبارة عن مصباح يستخدم للانارة اثتاء عملية الاصلاح ويمكن ادخالة تحت السيارة او الاماكن الضيقة وله وصلة كهربائية طويلة للاتصال بالكهرباء عن بعد ومن داخل المنزل في حالتنا, يغلفها غلاف معدني مشبك من جهة ومن جهة اخري مغلف بالكامل لحماية المصباح الكهربائي, يتصل به خطاف من اعلى لتعليقة في اي مكان كما مقبض بلاستيكي به زر الاشعال". كان على ان اقوم بحمل ذلك الاسبكشن والانتقال من مكان الى مكان ومن زاوية الى زاوية متبعا في ذلك توجيهات من يقوم بالاصلاح اسفل السيارة او داخل المحرك. : "انر هنا", "ادخل الاسبكشن قليلا للداخل فلم اعد ارى", " اقلب وجة الاسبكشن للداخل لينير فقد وضعته على الجهة الخطا", وغيرها من التوجيهات التي تحتاج الى انصات وتركيز والذان كنت افقدهما وينقصان لدي في احياناً كثيرة مما كان يستلزم بعض النهر والتوبيخ من ابي واصدقائه.

كنت احاول اتهرب من تلك المساعدة بادعاء المرض احيانا و الواجبات المدرسية احيانا اخري الا ان تلك الحيل كانت قل ماتنجح خاصتا في العطلة الصيفية فيفوتني اللعب في الحي مع الاولاد. كنت احلم كثيرا ويطيش خيالي بعيدا الامر الذي يفقدني التركيز ولا اجد الاشياء التي يطلبونها مني بالرغم من وجودها امام عيني مباشرة فكان هذا الامر يزعج ابي الذي كان يريدني ان اكون حاضر الذهن سريع البديهة لذا كان يطلب ابي مني ان اكون حاضراً دائماً  لتقديم المساعدة الامر الذي لا يستوعبة طفل في تلك السن ففي حينها كنت اعتبر تلك المساعدةً  كابوس مزعج وعبأ ثقيل. الا انني وبعد مرور عشرات السنين فهمت المغزى من كل ذلك واشعر اليوم اني قد تعلمت واستفدت الكثير من كل ذلك والتي من اهمها الاعتماد على النفس وعدم سؤال الاخرين الا ماندر.
الان وبعد كل تلك السنوات عرفت ان ذلك كان مفيدا حقاً فها اناذا امتلك صندوق مخصص كذاك الذي كان يملكه ابي يحتوي على كل مايلزم من ادوات استخدمُها في في عمليات الاصلاح والصيانة المختلفة. فاقوم مثلا بتجميع الاثاث وتركيبه او اصلاح اي الة كهربائية او منزلية بل واصبح الامر لدي من الامور الممتعة ومن هواياتي المفضلة.
كان زمانا جميلا وكانت الحياة لها مذاقها على الرغم من بساطتها وصعوبتها احيانا. 
كان الناس لاتزال تقيم وزناً للقيم والعلاقات الاجتماعية وصلة الرحم التي لربما فقدت بشكل كبير او على الاقل بهت لونها في عصرنا هذا, عصر الانترنت والاتصالات, فلم يكن التلفاز قد ولج الى كل بيت ولاتملكه كل اسرة والتي كانت بدايته, اي التلفاز, بداية خجولة وتاثيره نوعا ما ايجابي اذ كانت الاسرة تجتمع عليه لمشاهدة بعض البرامج البسيطة والتي في الغالب لم تكن موجهه.
الا ان الامر سرعان مااختلف بعد ذلك عندما دخل جهاز الفيديو البيت مما ادى الى قلب الموازين وساهم في انتشار ثقافة الافلام الامريكية والمصرية والتي بدأت في تاثيرها السلبي على المجتمع مع مرور الوقت ووصل اهميتها للدرجة التي جعلت الناس يتبادلون تلك الافلام بينهم. بعد فترة وجيزة دخل جسم دخيل اخر على مجتمعنا وكان الاخطر على الاطلاق, انه جهاز استقبار الاقمار الاصطناعية او مايسمىبالساتالايتوالذي رخص سعره تدريجياً ليدخل كل بيت ويكون جليس كل افراد الاسرة كبيرها وصغيرها نساءها ورجالها ولم يعد احد يستطيع الفكاك من سلطانه واسره فلايكاد يُتصور ان يخلو بيت من وجوده فأصبح....يتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق